فرش:
هذه القصة وقعت أحداثها في الدنيا،سمعتها من المربي الفاضل فضيلة الشيخ محمد صالح المنجد ـ حفظه الله تعالى ـ في بضعة أسطر فخلطتها بقلمي الضعيف.
(الكاتب...)
(1)
هذا الهزيع يهبط على (البصرة)،سرة الأرض ،وواسطة الدنيا، مدينة قد رُميتْ بالأبصار ،وقصدتْ بالآمال، وشدتْ إليها الرحال ، ميرادُ أهل العلم والرأي ،ومنهل أهل الثقافة والفكر، يرومونها لجمع نفائس العلم ، وصيد كرائم المعرفة، ويقصدونها للقاء لِداتهم من أهل اللب والنهى !
هبط، وكم تحته من قائم يصلي، قد بل َّموضع سجوده! وكم من مُحبّر للقران قد خشعت له الملائكة!وكم من مجاهد قد أَرِقتْ عينه على أعراض المسلمين !
تنام ( البصرة ) ملأ جوفنها،والبسيطة ترتجف فرقا منها،وتتزلزل هلعا من أسودها!
تنام (البصرة) وقد نُكّست رؤوس أهل الكفر، ووطِئتْ معاطس أهل الزندقة فمُنع تخلفهم، وقُطعت رجعيتهم، وكُف أذاهم ، ورُفع ظلمهم عن البشر!
تنام (بالبصرة ) والإسلام قد أفغم ما بين الخافقين بشذاه وعَرفه.فقد أظل الغبراء بعدله، ورحمته، وفضله،وبركته، فأضاء القلوب فطربت،وشرح الصدور فرضيت!
تنام (البصرة)وهي تمسك بيد واحدة وتتكلم بلسان واحد فالقلوب مُجتمعة،والهوى متفق،والشمل متحد لأن ربها واحد ودينها واحد ورسولها ـ صلى الله عليه وسلم ـ واحد!
(2)
بدأ سواد الليل يعظم فمال ميزانه حتى تنفس الصبح وانساب أذان الفجر بصوت رخي بين الأزقة والسُّبل ومع أفواه الدارات والمنازل فمسح قلوب الأتقياء ببرده وسلامه ،وأنعش أفئدة الأنقياء بطيبه وأريجه،فصرصرت الأبواب، ونضحت المياه فازدحمت الطرق وامتلأت المساجد..!
خلا دار (صاحب الثوب الأحمر) فلم يتناهى إليها الأذان إلا وهي خامدة كالقبور،لا نأمة فيها ولا حَسيس (الصوت الضعيف)، فالدنان قد شُعبت،والأعواد قد تعطلت،والطنافس قد قلبت، والأجساد قد مددت، وكأنما قد ضربها قاصف من الريح، أو اجتاحها سيل العرم !
فمن (صاحب الثوب الأحمر )هذا؟!
ويحه!!
قد تقلب أهل زمانه في جنة الإسلام ونعيمه وهو منبوذ في العراء! راضٍ أن يكون مع الخوالف المتأخرين!
وَيْلُمِّهِ ؟! أراغب هو عن الخير ؟! أزاهد هو بالعز؟! أمستغنٍ هو عن المجد؟!ألا يعلم أن الله قد كرّمه وخلقه في القرون المفضلة؟!
فمن هذا الرجل؟!
(3)
إنه (عبد الله ) صاحب لغو ولعب وخرافة ، لا يشهد الخمس ويزامل الأحداث والأوباش!ويجتمع معهم فتضرب الأوتار، وتدار الكؤوس، ويَقْصِفون (أي يأكلون ويشربون ) ويتمايلون، فيميتون ليالي (البصرة) المِسْكيّة ـ التي لم تسلم من أهل الغواية والضلالة ـ جهلا وفسقا، وغفلة وإعراضا!حتى إذا باح الصباح بسره، تفرقوا كل إلى داره!
ولهم على هذا حين من الدهر، وجوه قد اسودّت من مغبة الذنب، وصدور قد اضطربت من ضيق المعصية،ونياتٌ قد خبثت من طول الغفلة، أضاعوا زهرة عمرهم، ومَيعة شبابهم، وشَرْخ أيامهم، في مراتع الهوى والغي !نهجوا سَبيل إبليس، وسلكوا مِنهاجه،فاستغواهم، وزلت بهم أقدامهم!
(4)
قالت ( أم عبد الله ) لابنها يوما وهي تعظه، يا بني:
ما لي أراك معرضا عن الله، غارقا في لهوك ، ما كأنك خلقت لعبادة!أترغب أن تعيش تِلوا لهواك؟! تَبعا لنفسك؟!أُجلّك ـ والله ـ عن حياة الهَمَل والدّواب! إن أجسادنا يا بني لا تقوى على النار وويلاتها !
ووالله إن في الدنيا جنة، لا يلجها الإنسان، إلا من طريق التقوى، والكف عن الحرمات،وهي الطريق الفرد إلى جنات النعيم!ففيها بشاشة الحياة ونضرتها وزهرتها.
بني : من العجب أن تطلق السهم عن القوس لتصيب نفسك! وأن تجأ بطنك بحديدتك! و أن تجرد السيف من غمده لتهوي به على هامتك! وأن تكون راميا و هدفا تعتورك سهامُك! وأعجب من هذا كله بأنك تعلم أنك وحدك المستهدف من تلك الضربات .!
عفواً ـ بني ـ أنا لا أُلغِز(أي أبهم الكلام وأجعله لغزا) فهذه حالي وحالك حين نقترف الذنب! إن ما تفعله ليحكم عليك بفراغ الرأس وخواء العقل .!!
وطفقت تعظه على هذا النسق، من آية عظيمة تذيب القلوب، إلى حديث ترتعد منه الفرائس، إلى حكمة إلى عظة إلى عبرة، حتى انتهت ،وبثت ما في صدرها!!
قال أفرغتِ ؟!فاستبشرت ْو قالت نعم...نعم فرغت يابني! فانقلب على شقه ونام !!
فرفعت أمه يديها...فرفعت يديها ... وجعلتها ذاهبة في السماء حتى كاد نصيفها يسقط!
وقالت : اللهم ارحمه! ورده إليك ردا جميلا! وأقبلْ بقلبه إلى دينك وهُداك! يا أرحم الراحمين!
(5)
كان (عبد الله) جالسا بثوبه الأحمر، أمام داره، والشمس في الطَّفل (أي عند غروبها)، ينكت التراب بيده،شارد الذهن ، مسترسل الخيال ، ينتظر لداته وسمراءه، قد سكب لهم أم الخبائث ، وأعد من أجلهم المعازف.
وبينا هو كذلك إذ اضطرب الناس من بين يديه، وخرجوا من بيوتهم ،وأغلقوا متاجرهم ، وعطلوا مصالحهم ، فازدحمت السكك ،وارتفعت الأصوات ،وجعلوا يرددون على ألسنتهم: (شعبة ...شعبة...جاء الإمام شعبة....)!
فانتبه (عبد الله) وتملكته الحيرة، ودُهش!! فأوقف أحد السابلة واستفهم منه ،فقال الرجل بكل غبطة وسرور : جاء الإمام شعبة، فخرج الناس لاستقباله في صدر المدينة !
فقال (عبد الله) قولة جاهل لا يقدر لعالم قدره: وأيش شعبة؟! ومن شعبة هذا، حتى تتلاطم القرية؟!
قال ألا تعرفه؟! إنه من محدثي الزمان، وإمام من أئمة الهدى، ورجل من العلماء الأثبات، أبو بسطام (شعبة بن الحجاج) قد شابت لحيته في الإسلام، وأفنى عمره في العلم، ورجع ينشره بين الناس، ليقتبسوا من نوره!
فدارت فوق هامة (عبد الله ) علامات تعجب، وآيات استغراب، وقال:أكل هذه الجَلَبة، من أجل شيخ هِم، هو هامة اليوم أو غد؟!
فغضب الرجل وقال: ما أراك إلا رجلا قد رِين على عقلك!! ونهره وأبعده ،فابتعد (عبد الله) ولما يذهب ذهوله!!
فقال (عبد الله) لنفسه يحدثها:الفضول قد أخذ بفكري ،لم لا أقصد هذا الشيخ، أزجي الوقت عنده ،حتى يأتي أصحابي !!
(6)
فحث (عبد الله) خطاه إلى الإمام (شعبة)، وكان قد وصل إلى عَرَصة قريبة من داره ،قد طوقه الناس يصافحونه مستبشرين، ويعانقونه فرحين ،ويسألونه متأدبين، فشق الصفوف إليه، ثم قال بتعاظم ،وشموخ أنف : هيه أنت حدثني !!
فرفع (الشيخ) بصره في وجه (عبد الله)، فرأى شابا آيته آية عابث ، فطريقة كلامه، ومظهره، ولباسه، أنه لا يريد الحديث، ولا أخلاقه من أخلاق أهل العلم وطلبته!
فأعلَّ (عبد الله) السؤال وقد أسكرته خمرة التيه وقال : ألا تسمع قلت ُ : حدثني!!
فقال (الإمام) في حلم وكظم غيظ: لا أحدثك! أنت ليست من أهل الحديث!ولا يؤخذ العلم بهذه السبيل!
فعدا طوره وأخرج سكينا كانت معه وشهرها في وجه (الإمام)..!!
فلما طفح الكيل فار الناس غيضا، وتميزوا حقدا، وتلظوا غضبا، واضطربوا واضطرموا، وغلى الدم في رؤوسهم ، وعزموا على البطش به وأَخْذه ، والشيخ يحكمهم ويردهم حتى غضوا جفونهم على قذى، وطووا نفوسهم على جوى!
فلما حجز الإمامُ الناسَ، تلا بأناة وحكمة، وسكينة وحلم:حدثنا منصور ،عن ربعي بن حراش، عن أبي مسعود قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فافعل ما شئت ).
فشخص بصره، ووجب قلبه، فارتعشت أطرافه، وكأن الشيخ قد صفعه صفعة ، تصفر منها الأنام! وكأنه قد صب على جسمه سَجْلا( أي دلوا) من الماء ،والناس حوله يُسرِّحون النظر فيه، ويتعجبون من حِطته وسقوطه!
فبَضّتْ (سالت) عينه، ورمى سِكينته ،وقَفَل إلى دار ه يسعى!
(7)
فما إن صار إلى أمّه، قبّل رأسها وبكى، فحَدَبتْ عليه وأشفقتْ ، ورقتْ له وتحَننتْ، وبكتْ لبكائه وقالت : مالك يابني ؟! لقد أخذت بمجامع قلبي ...مالك !
فقص عليها ما كان ، ثم قال والندم يفري قلبه ويُذل عصي دمعه:إني في ضيق ،أكاد أُحبس في جسمي !كم أذنبت! وكم عصيت! كم غفلت! وكم تكبر كم أعرضت ! وكم ..وكم ..!
نسيت أن هناك جنة ونارا ،وحسابا وعذابا، وقبرا وحشرا
وأن الله مطلع وشاهد...فقطع كلامه عبرة تُشفق عليه منها! ثم التفتَ إلى أمه وقال : أيتها الكريمة! استغفري لي خطئي، إني كنت بك عاقا مسيئا! ثم كرَّ راجعا فأراق الدِنان واتلفَ أدوات الطرب فانتشرتْ في الغرفة كِسْراتها ، فأُزيل المنكر!
فبكتْ أمه فرحا ،وتهلل وجهها وأَسْفَر ، فرفعت كفيها وقالت :الحمد لله الذي هداك وفتح على بصائر قلبك!
ثم قال : أماه! أريد أن أظعن، وأشد الرحال إلى (المدينة)، وألازم إماما قد طار فضله وعلمه في الآفاق، وأمّه الناس من مشارق الأرض ومغاربها، يقال له (مالك بن أنس الأصبحي)! إني عازم على طلب العلم والتفقه في الدين، فقد أشار عليّ بعض الصالحين بذلك محوا لزلتي وغسلا لعثرتي! فإن أذنتي سِرتُ على بركة الله !
فتهللتْ بَشْرة أمه وقالت: ما كنت لأمنعك عن خير قط ! فسر لبُغْيتك موفقا مسددا وأنت في سبيل الله ، ثم جهزته وودعته ودعت له فقال وهو على ظهر راحلته : إن جاء أصحابي فأضيفيهم ثم قولي لهم إني قد سموت وارتفعت واستبدلت السعادة بالشقوة!والقُنّة بالحضيض!قولي لهم أني راحل عنهم، وعن عشرتهم!
فأم (المدينة النبوية) وألم الذنب يلازمه على ظهور السَبَاسِب (الصحاري)، وفي بطون الأودية، وفوق قُلل الجبال:
لهيبُ ذنبيَ نفسي منهُ تحترقُ = وجمرةُ الذنبِ في الأحشاءِ تلتهبُ
والروحُ ضاقتْ وكانتْ قبلُ في سعة ٍ= كأنها من أليمِ الموتِ تضطربُ
قد كفَ الهوى ناظريّ ثم صيرني = كحاطبٍ في ظلامٍ نالهُ عطبُ
أرخصتُ ساعاتِ عمري وهي غاليةٌ = في لذةٍ أثقلتْ ظهري...فيا عجبُ!!
(
حتى ألقى عصاه عند (مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحى)، إمام دار الهجرة، وصاحب السلسلة الذهبية في الإسناد، الموصوفة بالكاملة ، فعكف على دروسه بهمة ونشاط ،فأدناه(مالك) وقربه،واحتفى به، ووصله، فلم يقصر معه في إحسان، ولا تأخر عنه في بر، فأحبه(عبد الله )حبا جما، وأجلّه ووقره!
ورأى من دروس (مالك)، العبر !ومن ذاك شدة تعظيمه لكلام النبي العظيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإذا أراد تلاوة حديث (توضأ وتزين، وسرح لحيته، وتعطر، وجلس على هيئة التشهد، في هيبة ووقار، وكأن مجلسه، مجلس موتى من شدة السكون، ومن شدة إجلاله للحديث، وإجلال الناس له) فلما رأى ذلك أحد طلبته أنشد:
يدعُ الجوابَ فلا يراجعُ هيبةً = والسائلون نواكسُ الأبصارِ
عزّ الوقار ونور سلطان التقى = فهو المهيب وليس ذا سلطان
وأصاب من دروسه حظا حَفِيلا ،من علم الكتاب والسنة، فقرأ عليه كتابه(الموطأ) الذي وطأه للناس وهذبه حتى أصبح ( عبد الله) أحد رواته الثقات! وعده جِلّة من أئمة الإسلام كابن معين والنسائي وابن المديني من أثبت الناس فيه! وغدت روايته (للموطأ) من أكبر الروايات وأهمها !
وساعتئذ قفل راجعا إلى (البصرة)، يحدوه الشوق إلى أهله ووطنه ، فذاق في بُعدهم ألم الغربة. يحدوه الشوق إلى دليله على الهداية ، شيخه الأول الذي جهل عليه، وأخطأ في حقه!يحثه الشوق إلى (شعبة)، يريد أن يضمه إلى صدره، ويقبّل رأسه ، يزاحم في حِلقه المناكب ويثني في دروسه الركب، لينصت له ،ويروي عنه، فيقوى إيمانه ويزيد علمه ويمتّن سنده !
فلما برزت البصرة بسمائها وطيورها، و نخيلها ودورها، ومائها ونسيمها، وَجَبَ قلبه وخفق، ولما دخلها لم يستقر، حتى سأل عن الإمام (شعبة)، سؤالا لا كسؤاله الأول، وهو جاهل متكبر، بل سؤالا عن حب وشوق، ولهفة وحاجة، سؤال طالب متواضع يقدر للمعلم قدره!
(9)
فأجابوه ! وقالوا له مقالة قضّت مضجعه، وأسالت مَدمعه!
فجثا على ركبتيه وقال:
أحقا مات (الإمام شعبة) ! مات ولم أنظر إليه إلا نظرة على عجل ، ولم أسمع منه إلا حديثا واحدا كفني فيه عن جهل !!
فانتحب! حتى أشفق عليه طلابه، وواسوه، وذكروه بالله، فرضي وسلّم!
أرأيت أخي هذا الذي يتحلق حوله الطلبة!
أرأيت هذا الذي يتزاحم عليه الناس!
أرأيت هذا الذي يشع من وجه نور الطاعة، ووقار العلم!
أرأيت هذا الشيخ الباسم، المتهلل، الطلق!
أرايت هذا العالم المنطلق اللسان، الحسن البيان!
أرأيته!
إنه صاحبنا الشيخ المحدث
الثقة، الثبت، الحجة!
(عبد الله ...)!!!
(عبد الله بن مسلمة القَعْنبي)
هكذا يقول الموطأ فسرح النظر فيه تجد :
حدثنا:عبد الله بن مسلمة القَعْنبي
وهكذا تقول السنن فأمرّ بصرك فيها تجد :
حدثنا:عبد الله بن مسلمة القَعْنبي
فنَبَت اسمه ،على هذه الصفحات الطاهرات، وردا جنيا
يفوح شذاه ،ويتضوع عَرفه!
ما اسود ليل، وابيض نهار!
نسأل الله أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين أتم جزاء وأوفاه!
وأن يرحمه رحمة تغفر ذنبه وتكرم