وما أكثر المواقف التي تألق فيها ذكاء عمرو ودهاؤه.
وان كنا لا نحسب منها بحال موقفه من أبي موسى الأشعري في واقعة التحكيم حين اتفقا على أن يخلع كل منهما عليا ومعاوية, ليرجع الأمر شورى بين المسلمين، فأنفذ أبو موسى الاتفاق، وقعد عن انفاذه عمرو.
واذا اردنا أن نشهد صورة لدهائه, وحذق بديهته, ففي موقفه من قائد حصن بابليون أثناء حربه مع الرومان في مصر وفي رواية تاريخية أخرى أنها الواقعة التي سنذكرها وقعت في اليرموك مع أرطبون الروم..
اذ دعاه الأرطبون والقائد ليحادثه، وكان قد أعطى أمرا لبعض رجاله بالقاء صخرة فوقه اثر انصرافه من الحصن، وأعدّ كل شيء ليكون قتل عمرو أمرا محتوما..
ودخل عمرو على القائد، لا يريبه شيء، وانفض لقاؤهما، وبينما هو في الطريق الى خارج الحصن، لمح فوق أسواره حركة مريبة حركت فيه حاسة الحذر بشدّة.
وعلى الفور تصرّف بشكل باهر.
لقد عاد الى قائد الحصن في خطوات آمنة مطمئنة وئيدة ومشاعر متهللة واثقة, كأن لم يفرّعه شيء قط، ولم يثر شكوكه أمر!!
ودخل على القائد وقال له:
لقد بادرني خاطر أردت أن أطلعك عليه.. ان معي حيث يقيم أصحابي جماعة من أصحاب الرسول السابقين الى الاسلام، لا يقطع أمير المؤمنين أمرا دونمشورتهم، ولا يرسل جيشا من جيوش الاسلام الا جعلهم على رأس مقاتلته وجنوده، وقد رأيت أن آتيك بهم، حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت، ويكونوا من الأمر على مثل ما أنا عليه من بيّنة..
وأدرك قائد الروم أن عمرا بسذاجة قد منحه فرصة العمر..!!
فليوافقه اذن على رأيه، حتى اذا عاد ومعه هذا العدد من زعماء المسلمين وخيرة رجالهم وقوادهم، أجهز عليهم جميعا، بدلا من أن يجهز على عمرو وحده..
وبطريقة غير منظورة أعطى أمره بارجاء الخطة التي كانت معدّة لاغتيال عمرو..
ودّع عمرو بحفاوة، وصافحه بحرارة،
وابتسم داهية العرب، وهو يغادر الحصن..
وفي الصباح عاد عمرو على رأس جيشه الى الحصن، ممتطيا صهوة فرسه، التي راحت تقهقه في صهيل شامت وساخر.
أجل فهي الأخرى كانت تعرف من دهاء صاحبها الشيء الكثير..!! وفي السنة الثالثة والأربعين من الهجرة أدركت الوفاة عمرو بن العاص بمصر، حيث كان واليا عليها..
وراح يستعرض حياته في لحظات الرحيل فقال:
".. كنت أول أمري كافرا.. وكنت أشد الناس على رسول الله, فلو مت يومئذ لوجبت لي النار..
ثم بايعت رسول الله, فما كان في الناس أحد أحب اليّ منه، ولا أجلّ في عيني منه.. ولو سئلت أن أنعته ما استطعت، لأني لم أكن أقدر أن أملأ عيني منه اجلالا له.. فلو متّ يومئذ لرجوت أن أكون من أهل الجنة..
ثم بليت بعد ذلك بالسلطان, وبأشياء لاأدري أهي لي أم عليّ
ثم رفع بصره الى السماء في ضراعة، مناجيا ربه الرحيم العظيم قائلا:
" اللهم لا بريء فأعتذر, ولا عزيز فأنتصر،
والا تدركني رحمتك أكن من الهالكين"!!
وظل في ضراعاته، وابتهالاته حتى صعدت الى الله روحه. وكانت آخر كلماته لا اله الا الله..
وتحت ثرى مصر، التي عرّفها عمرو طريق الاسلام، ثوى رفاته..
وفوق أرضها الصلبة، لا يزال مجلسه حيث كان يعلم، ويقضي ويحكم.. قائما عبر القرون تحت سقف مسجده العتيق جامع عمرو، أول ميجد في مصر يذكر فيه اسم الله الواحد الأحد، وأعلنت بين أرجائه ومن فوق منبره كلمات الله، ومبادئ الاسلام.
وداعا يااهيه العرب وعا يامن قال فيك رسول الله ان مكه قض قزفت لكم بفلذات اكبادها وداعا يا ارطبون العرب